كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال يا عباس «احبسه بمضيق الوادي حتى يرى جنود اللّه»، قال فخرجت به حتى وقفت به حيث أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصارت تمر القبائل، فجعل يقول كلما تمر واحدة مالي ولهؤلاء! حتى مر رسول اللّه في كتيبته الخضراء، وإنما سميت خضراء لكثرة الحديد فيها فلا يرى منهم إلا الحدق، فقال سبحان اللّه من هؤلاء يا عباس؟ قلت هذا رسول اللّه في المهاجرين والأنصار، فقال ما لأحد ولهؤلاء من قبل ولا طاقة، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، قلت ويحك إنها النّبوة، قال نعم.
ثم تركه فلحق بقومه، ولما قرب منهم صاح بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم، قالوا فمه، أي بماذا تأمرنا وماذا نفعل؟ قال من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا وما تغني عنّا دارك؟ قال من أغلق بابه فهو آمن، فتفرق الناس إلى المسجد وإلى دورهم، فجاء حكيم بن خزام وبديل بن ورقاء رفيقاه وأسلما وعمدا إلى مكة، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أثرهما الزبير وأمره على خيل المهاجرين والأنصار، وأمره أن يركز رأيته بأعلى مكة بالحجون، وقال: «له لا تبرح مكانك»، وأمر خالد بن الوليد فيمن اسلم من قضاعه وبني سليم وأمرهم أن يدخلوا من أسفل مكة، وقال للزبير وخالد «لا تقاتلا إلّا من قاتلكما» وأمر سعد ابن عبادة أن يدخل في بعض النّاس من كدى، فقال سعد اليوم يوم الملحمة يوم تحل تدخل، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم المحرمة، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام «أدركه وخذ الرّاية منه وكن أنت الذي تدخل»، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم وان تعلفوا بأستار الكعبة. وقيل قال لسعد «بل اليوم يوم المرحمة».
ثم دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متواضعا لربه الذي أكرمه بالفتح المبين، حتى أن رأسه الشّريف يكاد يمس واسطة رحله، ولم يقع قتال إلّا في جهة خالد، إذ عارضه المشركون بالدخول من حيث أمره الرّسول، فقتل منهم بضعة عشر رجلا، وقيل سبعين، وإن حضرة الرّسول أنبه على ذلك إن كان على ما قيل إنه أرسل إليه من قال له ضع السّلاح عنهم، وإن هذا يقول إلى خالد يأمرك رسول اللّه أن تضع السّلاح فيهم.
وان جبريل عليه السلام قال لرسول اللّه لماذا تعاقب خالدا وهو إنما فعل لإبرار قسمك، وذلك أن صلى الله عليه وسلم لما رأي حمزة ممثلا به في واقعة أحد أخذته الحدة وقال واللّه لأمثلن بسبعين منهم، وهناك أنزلت الآيات من آخر سورة النّحل التي أولها {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا} إلخ كما المعنا إليه في الآية 122 من آل عمران المارة فراجعها.
وقتل من المسلمين ثلاثة: سلمة بن الميلاد الجهني وكرز بن جابر وخنيس ابن خالد بن الوليد.
أما الّذين هدر دمهم رسول اللّه فهم: عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح لارتداده عن الإسلام فاستاء منه أخوه من الرّضاع عثمان بن عفان وعبد اللّه بن حنظلة لأنه قتل مولاه المسلم واتخذ مغنيتين تهجوان حضرة الرّسول قتلت إحداهما واستأمنت الأخرى رسول اللّه فأمتها، والحويرث بن فضيل بن وهب لشدة إيذائه حضرة الرّسول، ومقيس بن خبابة لقتله الأنصاري وارتداده، وسارة مولاه بني عبد المطلب لأنها كانت مبالغة في إيذائه بلسانها فاستأمنت الرّسول فأمنها وعكرمة بن أبي جهل، وقد استأمنت له حضرة الرّسول زوجته أم حكيم بن الحارث فأمنها، ثم جاءت أم هاني لنستأمن رسول اللّه على رجلين أراد على قتلهما فقال: «مرحبا وأهلا قد أجرنا من آجرت».
ثم دخل صلى الله عليه وسلم البيت المكرم فطاف به وصلّى وأخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة وفتحها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها وطرحها ثم وقف على بابها فقال: «لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كلّ مأثرة أو دم أو ما يدعى فهو تحت قدمي هذين، إلا سدانة البيت (التي ألمعنا إليها في الآية 58 من آل عمران فراجعها) وسقاية الحاج، الا وقتل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدّية مغلظة مئة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها. يا معشر قريش إن اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلى {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى} الآية 13 من سورة الحجرات المارة يا معشر قريش ما ترون إني فاعل بكم؟» قالوا خير أخ كريم وابن أخ كريم قال: «فاذهبوا فأنتم الطّلقاء».
فأعتقهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم جلس فبايعه النّاس على الإسلام والنّصرة، وثم له الفتح على هذه الصّورة.
ثم ظنت الأنصار أنه يقيم بمكة بعد أن أتم اللّه له وعده ويتركهم فنظر فرآهم يتنابسون بذلك، فقال لهم ما معناه كلا إن الحياة معكم والموت معكم، فاطمأنت نفوسهم وامر على مكة أسيدا وعاد إلى المدينة ومن أراد زيادة إيضاح قصة الفتح فعليه بمراجعة السّير.
وهذا الفتح الواقع من طريق الغزو والجهاد {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} إذ رتب عليه هذا الأجر العظيم لك يا سيد الرّسل، لأن ثواب الجهاد أعظم ثواب، فأجدر أن يكون سببا لمحو ما فرط منك قبله وانطماس ما سيفرط منك بعده من كلّ ما تعده ذنبا بالنسبة لمقامك الكريم وإلّا فإن اللّه قادر على أن يفتح لك البلاد ويخضع لك العباد دون غزو أو جهاد ولكن ليكون سنة لمن بعدك ويكون ثوابه كفارة للذنوب لهم أيضا.
وقد بينا ما يتعلق في ذنوب الأنبياء في الآية 16 من سورة البقرة المارة.
وفيها ما يرشدك إلى المواقع الأخرى التي فيها هذا البحث {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بفتح البلاد الأخرى وينصرك على كلّ من يناوئك، ويظهر دينك على سائر الأديان، ويمكنك في البلاد والعباد {وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا} (2) في جميع أمورك الحاضرة والمستقبلة كما هي الحال فيما مضى من أمرك لتكون ظاهرا دائما {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} (3) لم يسبق له مثيل وحيد في نوعه فريد في بابه لا ذلّ ولا خذلان بعده أبدا {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} فملأها طمأنينة وثباتا ووقارا حتى ساروا معك جميعهم فلم يتخلف عنك إلّا من أذنته بالتخلف، إذ لم يقع في هذه الغزوة معارضة ما من أحد، بل كان كل منهم منقادا عن شوق ورغبة وحزم {لِيَزْدادُوا إِيمانًا} ويقينا وصبرا وطاعة {مَعَ إِيمانِهِمْ} الذي هم عليه.
وكأن قائلا يقول كيف نصره اللّه مع قلة عدده وعدده بالنسبة إلى أعدائه؟ فقال تعالى جل قوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} لا يكاثر ولا يغالب ولا يقابل إذ يجعلهم عونا للمؤمنين على أعدائهم ويكثر سوادهم ويقلل أعدائهم بأعينهم {وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بجنوده الموجودين فيهما وكثرتهم وقوتهم {حَكِيمًا} (4) في نصر نبيه وأصحابه على أعدائهم بإراءتهم القليل كثيرا لإيقاع الرّعب والخوف والذل في قلوب أعدائه، وإذا أراد أرسل صاعقة تدمرهم أو صيحة من أحد ملائكته تقصف قلوبهم فتميتهم حالا، أو يخسف بهم الأرض أو يغرقهم في الماء فيهلكهم عن آخرهم، كما فعل بالأمم السّابقة، وهو القادر على إلقاء الرّعب في قلوب أعدائه والجبن والخوف من أوليائه، ويلقي الثبات في قلوب المؤمنين فيبيدوا أعداءهم مهما كانوا، وهو القادر على إبادة الكفار بما أراد من عذاب دون سبب، ولكنه أراد أن يقهرهم ويهلكهم بصورة ظاهرة بواسطة جيشه المبارك الذي تسلح بقوة اليقين ومتانة الايمان ووقاية العزم وحماية الحزم.
وقاية اللّه أغنت عن مضاعفة ** من الدّروع وعن عال من الأطم

{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} الّذين جاهدوا معه {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} بسبب طاعتهم وثباتهم وبذل أموالهم وأنفسهم في إعلاء كلمة اللّه ونصرة رسوله ويجعلهم {خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ} قبل دخولها، ثم بدخلهم فيها طاهرين مطهرين {وَكانَ ذلِكَ} التكفير والتخليد في تلك الجنّات {عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) لهم لا أعظم منه، ولهذا جعل النصر والفتح على ما كان من بروزهم وجهادهم طائفين مختارين، ولا يخفى أن العطف بالواو لا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا، ولهذا جاءت جملة {وَيُكَفِّرَ} بعد جملة ليدخل.
روى البخاري ومسلم عن أنس، وأخرج الترمذي، عن قتادة عن أنس قال أنزلت على النّبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ} إلخ مرجعه من الحديبية، فقال صلى الله عليه وسلم «لقد أنزلت علي اللّيلة آية أحب إلي مما في الأرض»، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم، فقالوا أصحابه هنيئا مريئا يا رسول اللّه، لقد بين لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا فنزلت {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ} وليس المراد نزول السّورة كلها، لأن نزولها كان بعد ذلك كما ذكرنا، وأن المراد بهذه الآية آية المبايعة الآتية وما يتعلق بواقعة الحديبية المارة في الآية 10 من سورة الممتحنة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «أنزلت علي اللّيلة آية» ولو كان كذلك لقول سورة لهذا يحتمل أنه سمعها بعد ذلك تدبّر {وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ} وقدم المنافقين هنا وفي أمكنة أخرى، لأنهم أشد بلاء على المؤمنين من الكافرين لاختلاطهم معهم واطلاعهم على أسرارهم باعتبار أنهم مؤمنون ظاهرا لا يحترز منهم، أما الكافرون فيحترز منهم ويتحاشى عن إفشاء السّرّ بينهم لظاهر عداوتهم، ولذلك فإن عذابهم يكون أشدّ من عذاب الكافرين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} بعد قوله: {إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} كما أشرنا اليه في هاتين الآيتين 140 و145 من سورة النّساء المارة، ثم وصفهم بما هم متلبسون به بقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أي بان اللّه لا ينصر رسوله وأصحابه ولا يرجعهم إلى المدينة في غزوتهم هذه {عَلَيْهِمْ} جزاء ظنهم هذا {دائِرَةُ السَّوْءِ}.
والهلاك والعذاب الذي يتوخون أن يصيب المؤمنين {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} لما يحقدون على المؤمنين {وَلَعَنَهُمْ} زيادة على لعنهم الأوّل {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا} (6) ومنقلبا قبيحا لأملها {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (7) كررت هذه الآية تأكيدا، ولأن جنود السّموات والأرض منهم للرحمة قد مرّ ذكرهم في الآية الأولى قبل ذكر إدخال المؤمنين الجنّة ليكونوا معهم فيثبتوهم على الصّراط وعند الميزان، فإذا دخلوها الفوا إلى جوار اللّه ورحمته، فلا يحتاجون بعدها إلى شيء، ولذلك ختم تلك الآية بقوله عَلِيمًا {حَكِيمًا} ومنهم للعذاب فأخر ذكرهم في هذه الآية بعد ذكر تعذيب الكافرين والمنافقين ليكونوا معهم فلا يفارقوهم أبدا، ولذلك ختم هذه الآية بقوله: {عَزِيزًا حَكِيمًا} كقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ} الآية 20 من سورة الزمر ج 2 وقوله: {أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} الآية 43 من سورة القمر في ج1 {يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا} على الأنبياء قبلك وأممهم وأمتك ومن توالد منهم إلى يوم القيامة {وَمُبَشِّرًا} أهل الخير بالجنة دائمة النّعيم {وَنَذِيرًا} 8 لأهل الشّر بالنار دائمة الجحيم، وإنما جعلنا نبيّكم أيها العرب مخصوصا بهذه المزية {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} تنصروه نصرا مؤزرا مع التعظيم والتبجيل {وَتُوَقِّرُوهُ} تحترموه مع الإجلال والتكريم {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (9) وهذه الضّمائر كلها للّه تعالى.
وما قيل إن ضمير {تعزروه} فما بعده لحضرة الرّسول وضمير {تسبحوه} لجلالة الإله لا يصح إلّا أن يجعل الوقف على {وتوقروه} وقفا تاما ثم يبتدأ مستأنفا بما بعده، وهذا بعيد، لذلك جرينا على خلافه وهو الأولى والأحسن بدليل التعليل أول الآية واجراء نسق العطف على ما هو عليه وقرئت هذه الأفعال كلها بالتاء دلالة على ذلك، ويجوز قراءتها بالياء على التبعة بطريق الالتفات والمعنى على ما هما عليه.
وهذه الآيات التي نزلت بالطريق بعد منصرف رسول اللّه من الحديبية كما أشرنا إليه أول السّورة.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي المبايعين والمبايع له، واعلموا أيها المؤمنون انكم ألزمتم أنفسكم في هذه المبايعة الشّريفة النّصرة لحضرة الرّسول بصورة المعاهدة والمواثقة {فَمَنْ نَكَثَ} فيها ونقض عهده الذي أعطاه لك يا سيد الرّسل {فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} ولن يضرّ اللّه شيئا بل يعود ضرره على نفسه {وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} في هذه البيعة والعهد {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (10) في الآخرة وفخرا كبيرا في الدنيا.
واعلم أن الهاء في عليه المارة في هذه الآية تقرأ بالضمّ، ولا يوجد في القرآن غير هذه الهاء مضمومة بعد على تفخيما للفظة الجلالة، وأجمعت القراء عليه بالتلقي من حضرة الرّسول وأصحابه من بعده، ويوجد في الآية 69 من سورة الفرقان في ج 1 {فِيهِ} تقرأ بإشباع الهاء كسرا، كذلك وردت بالتلقي أيضا فلا يجوز كسر الأوّل ولا تخفيف الثاني تبعا لقواعد الإعراب والنّطق لأنهما مستقاة من القرآن والمنزل عليه.
واعلم أن هذه البيعة هي الواقعة تحت الشّجرة في الحديبية المشار إليها في الآية 17 من سورة الممتحنة المارة، ومعنى المبايعة هي العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل طاعته للسلطان ويلزمه الوفاء بها وبكل عهد ألزم نفسه به، راجع الآية 92 من سورة النّحل في ج 2 وما ترشدك إليه.
وتسمى هذه البيعة بيعة الرّضوان لابتداء الآية بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ} إلخ كما سيأتي بعد في هذه السّورة، والمبايعة مع الرّسول مبايعة مع اللّه تعالى، كما أن المبايعة مع السّلطان المسلم مبايعة مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {سَيَقول لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ} من غفار ومزينه وجهينة وأشجع وأسلم، وذلك حين رجوعه من غزوته هذه إلى المدينة، أي غزوة الحديبية معتذرين من تخلفهم عن الذهاب معه، وهذا من الإخبار بالغيب أيضا لأن هذه الآيات نزلت في الطّريق قبل وصوله المدينة وتقدم المعتذرين لحضرته بالاعتذار وهو قولهم لك إنا لم نتخلف عنك كلا ولا جبنا ولا لأمر آخر وإنما {شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا} عن استصحابك إذ ليس لنا من يخلفنا عليهم ويقوم بأمورهم فيكون خليفتنا فيهم {فَاسْتَغْفِرْ لَنا} يا رسول اللّه، لانا معترفون بالإساءة والتقصير مع عذرنا هذا راجع الآية 64 من سورة النّساء المارة، فأكذبهم اللّه بقوله: {يَقولونَ} لك يا أكمل الرّسل هذا القول {بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}.
من حقيقة التخلف لأنهم أرادوا به تقليل سواد جيش المؤمنين وخذلانهم وأن يبينوا لأهل مكة أنهم ليسوا مع الرّسول بسبب ما هو كامن في قلوبهم من النّفاق والعداء للرسول وأصحابه، فهذا هو سبب تخلفهم لا ما اختلقوه من العوز الكاذب، وان طلبهم الاستغفار صورة، لأنهم لا يعتقدون منفعته وحقيقته {قُلْ} يا سيد الرّسل لهؤلاء الكاذبين إذا كان الأهل والمال عائقين عن الذهاب للجهاد أو لمجرد استصحابك {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا} القتل أو الهزيمة أو خلل بالمال والأهل أو مجرد عقوبة على تخلفكم هذا {أَوْ أَرادَ بِكُمْ} ما يضاد ذلك من كلّ أنواع الخير مما يعدّ رزقا تنتفعون به {نَفْعًا} هل ينفعكم غير اللّه، وهل يكشف الضّر عنكم غيره؟ فسيقولون لك كلا لا أحد البتة، ولذلك فلا محل لقبول عذرهم {بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (11) وقد أخبر اللّه رسوله بأنكم ستعتذرون في هذه الأعذار الواهية بألسنتكم وتخفون ضدها، والأمر ليس كما ذكرتم بل كما قلت لكم {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} وقلتم إن أهل مكة سيستأصلونهم جميعا فلا يرجعون إلى المدينة {وَزُيِّنَ ذلِكَ} الظن من قبل الشّيطان {فِي قُلُوبِكُمْ} وقطعتم بصدقه {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} بأن اللّه تعالى مخلف وعده لرسوله فينهزم ويغلب {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} (12) بائرين هالكين {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ويظن بهما هذا الظّن السّيء الذي يؤدي إلى كفره {فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ} سماهم كافرين هنا لأنهم ظنوا باللّه اخلاف وعده لرسوله، ومن يظن هذا الظّن فهو كافر ويكون مأواه {سَعِيرًا} (13) نارا متأججة، لأنه لم يصدق قول اللّه ورسوله ولو صدق لما ظن هذا الظّن، ثم إن اللّه تعالى لم يقطع أمل المنافقين منه إذا تابوا وأنابوا ونصحوا، وقد فسح لهم الأمل بقوله جل قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يقيم فيهما من يشاء من خلقه وكلّ من وما فيهما ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، ويختار طائعهم وعاصيهم {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (15) بخلقه لا يزال يقبلهم إذا رجعوا إليه مخلصين، ثم ان حضرة الرّسول بعد أن وصلوا المدينة صار يعرض بغزو خيبر لأن اللّه فتحها وتخصيص غنائمها بالّذين شهدوا الحديبية وأخبره اللّه بما سيقول الّذين لم يشهدوها معه بقوله: {سَيَقول} لك {الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ} وقد أظهر اللّه تعالى كذب عذرهم في قولهم هذا لأنهم لم يحتجّوا بأشغالهم وأموالهم وأهليهم كما ذكروا قبل عند طلبهم الاستغفار لما في هذه الغزوة من أمل الغنيمة، بخلاف الحديبية لأنها كانت للزيارة فقط، وبان بهذا أن مبنى حالهم على الطّمع ليس إلا {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا} بطلبهم هذا الالتحاق معكم {كَلامَ اللَّهِ} الأزلي القاضي بعدم ذهابهم وباختصاص غنائم خبير لأهل الحديبية، فإذا قبلتم طلبهم فينبغي أن تشركوهم بالغنائم، واللّه تعالى لم يرد ذلك، فكأنهم غيروا كلام اللّه، وهذا هو قصدهم ليس إلّا فيا سيد الرّسل {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا} أبدا ما دمتم على نفاقكم لا مطلقا لمنافاته لما يأتي بعد {كَذلِكُمْ قال الله} وأوحى إلى نبيه به {مِنْ قَبْلُ} وصول المدينة أثناء رجوعه من الحديبية لا الآن {فَسَيَقولونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا} على ما يصيبنا مما تعنونه.